تباريح مشتاق عباس معن الرقمية

قراكتابة عاشقة




النقر على ضلوع البوح الأول يقود العين خارج العتمة الراسبة في أعماق النفس... بالخروج من "الغرفة الزرقاء" نلج فضاء متوهجا بعماء الضوء. شيء ما يداهم الشاشة كأنما يخطفها، من الظلمة للنور المشع، من "سيرة الغرفة الزرقاء" إلى "سيرة الخطوة الصفراء".
ذاك أول بوح الألوان،
فماذا تقول الدوال الأخرى مفردةً ومتعانقةَ؟

في نغمة الاستفهام يتردد صدى عنوان هذا العمل الرقمي بصيغة جديدة بها يواصل المتصفح سيره بين شعاب هذا "المتن الأول": تباريح رقمية لسيرة بعضها أصفر!



(2) السير في المدار العتيق





عبور الدوال الرقمية

من الأزرق الداكن المتدرج باتجاه الأسود التام الذي يؤطر "الغرفة الزرقاء"(#000000)، ينقلنا الفنان دفعة واحدة إلى الأصفر الصافي رقميا (#FFFF67).
من العزف المنفرد (المرفق بخلفية صوتية إيقاعية خافتة) إلى النشيد الجنائزي الجماعي.
من رأس التمثال الضاج بالحياة والموت، إلى ساعات دالي المائعة وأشيائه الغامضة بموتها الحي.
من الومضات والمقاطع الشعرية القصيرة، إلى (المتن)...

هذه العناصر المقارنة تبرز لنا بعد المسافات الظاهرة بين "الغرفة الزرقاء" وهذه "الخطوة الصفراء".
قبل أن تتمكن العين من جرد تفاصيل المشهد، يستوقفها شريط به عبارات حمراء مأخوذة بالعبور المستمر إلى اليمين، وهي بنفس ألوان ومقاسات واتجاه عبارة عنوان العمل في "الغرفة الزرقاء":

عاجل : ... ... ... باتجاه مخيف ... تأخذني خطوتي ،،، فهي تعرف أسراَرَ كلّ المخاطر ،،، لكنَّها تشتهي أنْ تقامر في لوعتي دائماً ....

رغم أن الشريط مبرمج، مثل سابقه في الصفحة الأولى، بسرعة عددية (5)، نلمس هنا نوعا من التوثب الأكبر في إيقاع العبارة مقارنة بعبارة العنوان، وهذا "التسريع" يتناسب مع ما أشاعه اللون الأصفر من تدفق مفاجئ للضوء جعل عبارة الشريط تضج بروزا بلونها الأحمر (نفس درجة لون العنوان #FF4500) الواقع على الأصفر (#FFFF67)، وأيضا باندراجها في تفعيلة المتدارك ذات الإيقاع السريع.
لا مجال لتناسي العين للشريط: إنه يرغمها على الالتفات إليه، توديعه، وانتظار مجيئه.
لا مستقر للعين.
لا مجال، مع الأدب الرقمي، لغير الرمش الراقص المنتشي برذاذات الضوء.
مسافرة، هي العين، في لحظة عبور "كأن الريح تحت نعل صاحبها"!




خطوة الشاعر العاجلة


في عبارات الشريط المتحرك ما يستدعي أشرطة الأنباء بالمواقع الإخبارية، وإمعانا في الإثارة يتم اقتراض لفظة "عاجل" من بلاغة الخطاب الإعلامي المصور، وهي لفظة كانت ومازالت مقترنة بأهوال الحرب والدمار اللذين يعيثان في الأرض خرابا، ونصيب بلاد الرافدين من "عاجل" العصر الحديث وافر الجراح.
بهذا المعنى، فالشريط لمجرد أنه شريط إخباري مستهل بالكلمة السحرية "عاجل"، يغدو مشبعا بالإيحاءات والصور، ومكسرا لنمطية الزمن الإخباري على العموم. هذا حال الإنسان في بداية الألفية الثالثة: لا يهتز إلا أمام "الخبر العاجل"، أما "عموم الخبر" فلا ينال من عنايته غير الرمش الذي تسمح به الصدفة أو محض الملل من الحياة... وقد أحسن الشاعر كثيرا بالتفاته إلى هذا الخطاب الأكثر تداولا واستدراجه إلى ضوء الشعر وحضوره الرقمي الفريد.

في هذا "العاجل" ما يستعجل خطى الشاعر الخارج/الهارب من "الغرفة الزرقاء". ألن تكون الخطوة في المدار العتيق خلاصا وانبجاسا بعدما كانت الإقامة في الغرفة انتكاسا واحتباسا؟

بتوقيف حركة الشريط، يحدث اختلاف في التلقي بعودة العين إلى سالف ألفتها الورقية، وحيثما وجدنا اختلافا يلزمنا الانتباه إلى ما به يتميز الأدب الرقمي. هنا مثلا لا نستوقف النص إلا كما يقَطّع العروضي بيتا أو كما يشجّر اللساني جملة:

عاجل : ... ... ... باتجاه مخيف ... تأخذني خطوتي ،،، فهي تعرف أسراَرَ كلّ المخاطر ،،، لكنَّها تشتهي أنْ تقامر في لوعتي دائماً ....

إلى أين للخطوة السير إذا كانت "باتجاه مخيف"؟
إنها تقود صاحبها الشاعر بخوفه الإنساني، خوف المبدعين المشرفين على مهاوي الحتف القادم والتي منها العبور إلى "الأفق الجديد" أو ما سماه خليل حاوي ب"الشرق الجديد".

السير "باتجاه مخيف" ليس تهورا، فخطوة الشاعر صديقة للحواف المحتدة بالمخاطر وعليمة بأهوال الطريق وأسرارها. ثم: هل هناك ما هو أدعى للخوف من الإقامة الأبدية بالغرفة الزرقاء؟
بدون "المغامرة الشهية" أو "المقامرة بلوعة الذات" لن يكون هنالك أفق لنزيف الذات إبداعيا، ولن يكون في العمل الفني مجال لابتكار الخطوة الناهضة من الرميم، المولودة من "خميرة الموت".




بين اللوحة والمتن


بتجاوزنا للشريط إلى أسفله، تتأرجح الحدقتان بين اليمين (حيث المتن المرقون على الخلفية الصفراء بخط أسود) واليسار (حيث طبيعة وأشياء سالفادور دالي النائمة في دهشتها):








بين النص واللوحة تباعدات يسعى الفنان لرأبها بأبعاد جديدة لها التجريب والابتكار، إننا بمعنى آخر أمام "نص جديد" و لوحة مشبعة بالتأويلات، وهنا سيكون من اللازم التمييز بين المتلقي القبلي للوحة وذاك الذي يكتشف دالي لأول مرة مع مشتاق عباس معن (أقول دالي، لأن هاته اللوحة أشهر من صاحبها!).

نحن هنا أمام "مقامرة فنية" جسيمة، إذ لا يكون سهلا دائما أن نتعامل مع "صرح كبير" بالهدم وإعادة البناء. اللوحة المثبتة أمامنا ليست كأي لوحة عابرة بل هي من تلك الأيقونات الأكثر تداولا في عصر الصورة، حيث يمكننا أن نجد لها تنويعات غرافيكية لا حدود لها، مبثوثة هنا وهناك في سياقات تأثيثية وشبكية متنوعة، كما أن دالي نفسه رسم نظائر أخرى كثيرة لأشياء هذه اللوحة وأشكالها وفضائها. والتعامل مع عمل من هذا النوع شبيه بالتعامل مع "الاستعارات الذاوية التي نحيا بها"، حيث تكون شبه عصية على التجاوز الجمالي.

هل يسعى مشتاق عباس معن لإنقاذ الدهشة من الألفة التي تتهددها؟

إنه يضعنا، مبدئيا، أمام لوحة سابقة للنص:

1- لأن اللوحة تعود إلى عام (1931)، وهذا العمل وليد سنة 2007...
2- لأن المتصفح، في حالة هذه اللوحة، قد يكون مشبعا بتأويلات سابقة تسير في الاتجاه المضاد الذي يقود خطوة الشاعر هنا، أو تتنافر مع أفق التأويل الذي به يصاحب المتصفح أفق الشاعر.
3- لأنها أوفى تعبيرا من "اللغة" ما دامت لها اللغات والأطياف كلها، لذلك يكون للصورة السبق في معظم حالات التلقي على الشبكة الزرقاء.

فضلا عن ذلك، نحن هنا أمام صورة للنصف الأيسر من لوحة دالي فقط، حيث قام الشاعر بتقطيعها وإسقاط جزء أساسي منها يتناغم بالضرورة مع عناصر المشهد التي احتفظ بها الشاعر، لا سيما وأن الامتلاء الذي يسم الجزء الباقي يشعرنا بمتعة إجالة النظر في القسم المبتور، ذي الامتداد الواسع في الفيف المؤدي إلى بحر لا أفق له غير الغروب الأبدي.

من المعروف عن دالي أنه كتب الشعر من خلال تسمياته المدهشة للوحاته العديدة، أما التي نِصفها على الشاشة الآن فتحمل عنوان: "
إصرار الذاكرة"، عنادها، إلحاحها، أي عودتها التي لا تمضي إلا لتعود: (انقر هنا لمشاهدة صورة كاملة للوحة).

إن دالي يرسم الأشياء المألوفة جدا في حياتنا اليومية، لكنه يمنحها شكلا مدهشا وناطقا برؤيته السوريالية (بالواقعي الذي لانراه!)، كما أن ثمة أشكالا تامة العناصر وأخرى غير متعينة الهوية والحدود أو ناقصة من جهة عناصر التكوين، ودالي كما لا يخفى هنا يحاول اللعب بغموض الأشكال القابلة للانتماء إلى أكثر من "شيء ميت" واحد (المعدن والثوب، الساعة وجناح الحمامة ووجه الإنسان...)! اختيار فني كهذا يستلزم حرفية عالية ومهارات تشكيلية تتجاوز "محاكاة الطبيعة" إلى "مباعدتها": لا شيء يقنعنا أن ما هو منشور على حبل الغسيل ليس ساعة معدنية، كما أن الساعة هي حمامة ذات أجنحة غير قابلة للتكذيب!! فلماذا تعامل مشتاق عباس معن مع هذه المشاهد ب "البتر غير القابل للتصديق"؟.
ما الذي يعنيه استدعاء الشاعر لهذه الأشكال السوريالية في سياق تباريحه الرقمية؟ ما دورها في بناء دلالة هذا العمل بشكل عام؟

لقد آثر الشاعر منذ البدء أن يترك شقوقا وفراغات كثيرة يسعد بها القاتب (القارئ-الكاتب) في عبوره بين إشاراتها وتلميحاتها باحثا عن ظلال المعنى وضوء الشعر الرقمي، إنه يترك أمر هذه "الأشياء السوريالية" للقارئ، وهذا التعامل يتناسب تماما مع ما سجلناه من اختلاف زوايا تلقي لوحة دالي، الشيء الذي يجعل تأويلها، شعريا، هنا، نوعا من "الحشو الرقمي" أو "المقامرة غير المحسوبة الخطى" طالما أنها ستشكل "تحجيما نصيا" به غير قليل من الإكراه الذي سيقع على المتلقي.

بدل ذلك، يمضي مشتاق عباس معن باتجاه خلق تداخل إبداعي جديد بين (المتن) و(اللوحة) عبر مواصلة استثماره لتقنية القطع والبتر: اللوحة هنا مبتورة وناقصة، وكذلك المتن يبقى ناقصا بدون عتباته وحواشيه وأشباهه النصية التي تتوزع عبر صفحات هذا العمل الرقمي.




بلاغة القطع والبتر

على غرار بتر المقطع الصوتي المرفق، فإن تقطيع صورة اللوحة يترك دمها السائل متسائلا: ما معنى هذا البتر الصارم؟ أما كان حريا بالفنان أن يمسح الجزء الأيسر المتبقي من الساعة المجنّحَة في لوحة دالي؟ خاصة وأنها محاطة باللون الأسود المضبوط رقميا(#020202) ، أي أنها لا تحتاج لغير الملء باستخدام نفس البرنامج المعتمد من طرف الفنان في معالجة الصور.
لكن أليس الشاعر مصرا على إبراز البتر والنقصان والانشقاق والانفلات، وبالتالي فإن إبقاءه على نصف الساعة المجنّحَة هو أمر مقصود وبانٍ لدلالة عمله الرقمي؟

لقد فضل الشاعر الاكتفاء بالجانب الأيسر من صورة اللوحة، أما الجزء الأيمن فمتروك لتشغيل ذاكرة وخيال المتصفح البصرية وأطره المعرفية، مما يدفعنا إلى افتراض أن مشتاق عباس معن سيعيد بناء الجزء المبتور من صورة اللوحة بواسطة المتن الشعري.

هل يمكن الإصغاء للشاعر مع مقطع غنائي جنائزي مبتور؟!

الموسيقى، هذه المرة، تأخذني إلى ذكريات شخصية خاصة بي. ليست هاته أول مرة أكون فيها بحضرة هذا الإنشاد الرفيع الذي يملأ الروح سموا يوهم بالكمال، والأكيد أنني في سماعي الراهن دون انتشائي بهاته الموسيقى قبل إخضاعها لمقص البرنامج الصوتي المعتمد.
في هذا التسجيل خشخشة تؤذي صفاء الإنشاد وآلاته العازفة، كما أن تقطيع الملف الصوتي، بالإضافة لتقزيمه الحجم الأصلي، تم بشكل باتر وغير مقبول، فأحال النشيد المتنامي صوتيا برفقة العزف إلى عضو مبتور كقلب بلا وريد.
في الغرفة الزرقاء شيء من هذا البتر تعيده الموسيقى التي خضعت لبتر بارز الشقوق!!

الأزرار/الأيقونات لم تسلم بعض حوافها من "البتر الأليم" الذي أفقدها تساوي أضلاعها من جهة توزيع الألوان أو الأطر السوداء الرقيقة المحيطة بها.

وليكن! سوف أنقر هذه المرة على الزر الخانق للصوت في المتصفح، فأحيانا يكون المحو التام أهون من الجرح...
لا أستطيع مواصلة التعرض للموسيقى المتألمة من البتر... ولا أكون سعيدا برقصة ديك المتنبي المذبوح من الألم!

ومهما كان الحال، سأقرأ النص وأنا ممتلئ بصوتين افتراضين مستمرين رغم إخراسهما: الإنشاد الأصلي، وعضوه المبتور هنا. اللوحة الأصلية ونصفها المدرج هنا، الوجه-الساعة-الحمامة الكاملة ونصفها المبتور هنا.
عضو مبتور.
لوحة مبتورة
ساعة مبتورة
إنه الزمن الباتر والمبتور، يطغى بإيقاعه الهازم للاكتمال، لكن الذات بخطوتها تسير وتمضي عنيدة مدركة أن السير أجدى من انتظار السيل!



في مدار الخطوة العتيق


خلافا للعبارات الشعرية المدرجة في الغرفة الزرقاء، سيكون التعامل مع المتن هنا يسيرا. ثمة إمكانية لنسخ النص ولصقه، أي للتحكم في مقاساته وحجمه وإعادة توزيعه بكل سهولة،...
بالتمعن في المتن الشعري نجد أكثر من مؤشر معجمي واستعاري يعيد بناء الصورة/ صورة اللوحة شعريا ومجازيا. كأنما البتر إفراغ يقوم الشاعر بملئه لغويا، خالقا الإحساس الذي أعطاه لنا دالي بالتسمية: "إصرار الذاكرة".
الذاكرة هنا ممنوحة للخطوة المؤرخة لسير صاحبها وسيرته، وهي متعانقة مع الدال العروضي المصر على الامتلاء.
أما الذاكرة في اللوحة فممنوحة للأشكال الملحة على الاحتفاظ بأسمائها الأصلية رغم ما فعلته بها الاستعارة التشكيلية المائعة.
ذاكرة الشعر في العراق مسكونة بوهج الفيافي والصحراء الموعودة بالنخيل، وهي إذ تلتقي ب "صحراء دالي السوريالية" تصهر عالما جديدا، سنعيد بناءه مع الشاعر، متلمسين ضوء الشعر الذي سيقود عبورنا بين اللوحة والمتن...

نقرأ على يمين لوحة سالفادور دالي ما افترضنا أنه "امتصاص شعري" للجزء المبتور من اللوحة، أي ل "المعادل الموضوعي-التشكيلي".... وقد اختار الشاعر توسيط النص بدل تصفيفه على اليمين، مما يخلق انطباعا بالتكتل والتداخل والانفتاح، حيث تغيب حدة الرتابة الناجمة عن البدء المستمر بأقصى اليمين وبشكل سمتري صارم (التوسيط ظاهرة لافتة في نشر الشعر رقميا).

بين بداية المتن ونهايته نقرأ:


"في مدار عتيق ...
أجلّت شمسُهُ
ضوءَ ذاك النهار
(...............)
... في مساء غريب
عانقت خطوتي خصْرَ دربٍ جديد
... غير أن الطريق الذي باركته خطاي
لفـّني من جديد
نحو ذاك الطريق العتيق ... ؟!"





جارحة هي نهاية الخطو في هذا النص. إنها تنتهي بالانكفاء، بالعودة إلى "الطريق القديم"، بعدما كان البدء ب "المدار العتيق" (هل هو العود الأبدي للفريد؟)

عروضيا، تنتظم هذه المقاطع الثلاثة (على غرار جملة الشريط المتحرك) في تفعيلة الخبب-المتدارك ذات الإيقاع الحثيث والصوت الضاج بالحضور. والخبب بحسب "اللسان" هو "ضرب من العدو… وقيل الخببُ السرعة"، وقد عدّه عبد الله الطيب من الأوزان القصار، ورأى أنه لا يصلح "إلا للحركة الراقصة الجنونية" (المرشد:ج1). يهمنا من هذه الشواهد تأكيدها على "السرعة" و"العدو" و"الحركة" و"الرقص" و"الجنون"، وإذا كنا نستبعد احتواء الوزن على "معنى مجرد سابق على تحققه في الممارسة النصية"، فإننا نستحضر الأثر البليغ لمفاهيم الشعرية العربية القديمة في تشغيل وتوجيه الخيال الشعري عند الشعراء قديمهم وحديثهم... وهنا نفترض أن مشتاقا يستدعي هذه الاعتبارات في اختياره لتفعيلة "المتدارك"، حيث وجد في تركيبتها ما يتناغم مع التيمة المطروحة في المقاطع وهي "الخطوة السائرة". للسير تواردات عمودية كثيرة منها: الهرولة، الركض، العدو، المشي... فما الذي تباشره خطوة الشاعر "المقامرة باللوعة"؟

يكشف التحليل العروضي عن تقيّد الشاعر بالتفعيلة التامة "فاعلن" في جل الأسطر الشعرية، يستثنى منها سطر واحد وردت فيه تفعيلة واحدة مخبونة: (هفهفاتِ المسير التي بذرتها خطاي/ فاعلن فاعلن فاعلن فعلن فاعلان). أما الأضرب فلا تخرج عن صورتين: (فاعلن/فاعلانْ)، كما أن التدوير لم يتحقق إلا في سطر واحد هو ذاته الذي عبّر فيه الشاعر عن إرباك الدروب لخطاه في الوقت الذي لا تفعل ذاك بسواه:

"... كلـّما أبصرتني خطاي
أربكتها الدروبُ التي باركت كل خطو
سواي ... !"
فاعلن فاعلن فاعلانْ
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فا
علانْ

رغم أن لتفعيلة المتدارك تنويعات أخرى لن يكون آخرها ما أباحته نازك الملائكة للشاعر الحر ب"أذنها الموسيقية" نجد الشاعر لا يكترث بتلك الجوازات، ويمضي منتشيا بالتفعيلة التامة، شبيهَ السير بمشي الأسير المعنّى المدجج بقيوده الذهبية التي "تقيس" خطاه. إنه سير لا إرادي طالما أنه لف في نفس المدار الذي يقنع الشاعر بعدم جدوى الحلم بالجديد!! (أتذكر الخطى في لوحة فان خوخ التي جسد فيها لحظة مشي الأسرى داخل ساحة السجن).

يتبين أن "عروض" المقاطع الثلاثة يسير في اتجاه مضاد للبتر والقطع والانشقاق والنقصان، ويميل إلى الاكتمال والالتئام والامتلاء، ولا يبقى لنا هنا من فرضية "الحد الأدنى" غير انزياحين لا يعدوان أن يكونا تذكيرا للذاكرة لا كشفا عن شظاياها:
- الانزياح عن نظام الشطرين المتناظرين
- الانزياح عن بعض بنود نازك الملائكة (مثل توظيف التفعيلة الخامسة)

إن ما يبرزه العروض يتساوق أيضا مع ثبات المقاطع الثلاثة على الشاشة وجمودها رغم أن البرمجة تتيح تحريكها على ألف وجه ووجه، فالمتن بالصورة الواردة هنا يبقى محتفظا بكل خصائص الشعر السطري-الجملي المتداول ورقيا، بل إن نهايات الأسطر الشعرية ذاتها تتميز بوقفاتها العروضية الناتئة التي تزداد حدة حينما تتصادف مع تمام التركيب والدلالة!
ويهمنا هنا الالتفات إلى ظاهرة إيقاعية أخرى، تتمثل في قطع الشاعر لامتداد النفَس الحركي الذي يقتضيه النظم النحوي في أواخر جل الكلمات الواردة بنهايات الأسطر الشعرية، وقد تم ذلك بالتسكين الأكثر حدة (المد المتبوع بالسكون) الذي يبرز اختناق السائر على حساب الامتلاء القسري للوقفة العروضية: (عتيق، شمسُهُ(و)،النهار، السنين، حاشية، السماء، خطاي، العتيق، العتيق،خطاي، سواي، جديد، جديد، الدروبْ، غريب، جديد، خطاي، جديد، العتيق)... بدون تسكين هاته الكلمات تتبدد الوقفة العروضية ويضيع الدال العروضي المؤشر على قيود الشاعر السائر بالمدار العتيق. ورغم ذلك فالشاعر لم يثبت علامة السكون إلا مرة واحدة فوق كلمة واحدة هي: (الدروبْ). ما دلالة هذا الترك؟ هل هو علامة على الانشقاق في مقام الاكتمال؟
أميل إلى تفسير هذه الظاهرة النحوية-الإيقاعية بأثر إيقاع اللهجة التي يتداولها الشاعر ومحيطه العام، ومن هذا المنطلق فالقارئ غير المكترث بالبناء العروضي سوف يميل تلقائيا إلى تسكين أواخر بعض الأسطر فقط لا جميعها (كلمة "حاشية" كمثال لن يتم ختمها بهاء السكت لوجود النقطتين)، مما يجعل القراءة الفعلية تتجه في أفق آخر، غير عابئة بأفق "القارئ الضمني" الذي يستحضره الشاعر أثناء الكتابة.
ضمن لائحة الكلمات السابقة تكرارات تطابقية: (عتيق=العتيق=العتيق، خطاي=خطاي=خطاي، جديد=جديد=جديد=جديد)، وهي تبرز مدار الرؤية التي يصدر عنها الشاعر: ارتباك الخطى السائرة من العتيق إلى "الجديد".

إذا تجاوزنا الأسطر المنتهية بالدوال السابقة لا تبقى أمامنا سوى الأسطر التالية التي وردت كلماتها الأخيرة ساكنة بمقتضى البنية الصرفية والنحوية (المد أوالتنوين):

فوق تلك الديار التي لم يطأ أرضَهَا
من غبار الليالي التي
يقتفي ظلُّها :
أربكتها الدروبُ التي باركت كل خطو

نخلص من قراءتنا للدال العروضي إلى أن الاكتمال والامتلاء الظاهرين في تفعيلة المتدارك، يتوازيان مع سكنات أواخر الأسطر في خلق رؤية قائمة على "العناد والإصرار" برغم اختناق الأنفاس وارتباك خطى السائر في ليل القصيد...



في السير على الأثر


إن المقاطع الثلاثة قابلة لقراءات مختلفة، ويهمنا في هذا المقام الرقمي الوقوف على العناصر التالية:

- الفضاء: يقدمه الشاعر بصور يتعانق فيها المكان والزمان ، وذلك بدءا بمطلع المقطع الأول:
"في مدار عتيق ...
أجلّت شمسُهُ
ضوءَ ذاك النهار
فوق تلك الديار التي لم يطأ أرضَهَا
صوتُ خطوِ السنين "
اهتمامنا بالفضاء (وهو غير الكتلة الرقمية الماثلة على الشاشة) يستجيب لفرضية التراسل الناشئ بين النص ونصف اللوحة المبتور (الشاهد والغائب)، ونرى في الأسطر الخمسة أعلاه أكثر من خيط رابط بينهما.

- فعل الطبيعة: بالإضافة إلى "الشمس التي أجلت ضوء النهار"، نواصل القراءة:
"... أدلجتْ عتمةٌ حاشية
من غبار الليالي التي
لم تزل فوق رمش السماء ..."
ودائما يثيرنا استمرار التواصل بين الكلمات والصورة المبتورة، ذلك أن العتمة حاضرة بقوة لدى دالي كما أن الشمس يستدعيها للذهن الأفق المضاء بما بعد المغيب...

- فعل الذات: يبدأ وينتهي في المشهد الموصوف سابقا، ويتحدد بالخطو والمشي والسير ك"حركة" تتم في المدار والطريق والدروب (وهي ألفاظ مثيرة التكرار في المقاطع الثلاثة باشتقاقاتها وترادفاتها العديدة).
يستفاد من المقاطع الثلاثة أن هناك تنابذا بين الخطوة والطريق؛ فالخطوة تبارك الجديد-المدهش-الفاتح، والطريق لا تعود إلا إلى نفسها وبالتفافها تلف الشاعر "من جديد". وهذا التركيب نفسه يجعل العتيق والجديد هنا صنوين وليسا ضدين، أي أن عبارة "من جديد" لا تعني هنا غير انكفاء الخطوة واستعدادها لاستئناف البدء عبر"التكرار السيزيفي لما تم في السابق"!

بتأملنا في الجزء المبتور من اللوحة لا نبصر أثرا للبشر ولا طريقا مؤشرا على "خطى سابقة"، مما يجعل أي سير هنالك هو نوع من "الفتح الجديد"، مغامرة تقود أثرها إذ تؤسس خطوتها المقامِرة بكل شيء ضد الموت والتخثر والركود. أما "المدار" الذي يسير بدربه الشاعر فهو دائري مغلق مثل تفعيلة المتدارك وسكنات نهايات الأسطر. نقرأ:

"... كلـّما أبصرتني خطاي
أربكتها الدروبُ التي باركت كل خطو
سواي ... !
***
... فتّشت خطوتي عن طريق جديد
في مدار جديد ...
يحتوي هفهفات المسير التي ضيعتها الدروبْ .
***
... في مساء غريب
عانقت خطوتي خصْرَ دربٍ جديد
... غير أن الطريق الذي باركته خطاي
لفـّني من جديد
نحو ذاك الطريق العتيق ... ؟!"

إن خطى الشاعر تبارك الطريق لكن الدروب تربك خطاه وتقودها للانكفاء و"إعادة ما كان، من جديد"، ثم اليأس من الوعد الذي يشق أفقه في الطريق دون لف ولا دوران.
من حيث بناء الصور وتشغيل اللغة نلاحظ ما يناظر العروض، حيث يستمر "العتيق" في الحضور، ففضلا عن رتابة التفعيلة تتلاحق الاستعارات المتنامية بألفة لا يلفها إدهاش أو إرباك، ووسط هذه الألفة تنبثق، بجدتها وتضادها العنيف، هذه الصورة الواردة بالمقطع الأخير:
"... في مساء غريب
عانقت خطوتي خصْرَ دربٍ جديد
... غير أن الطريق الذي باركته خطاي
لفـّني من جديد
نحو ذاك الطريق العتيق ... ؟!"

إن استعارة الخصر ل "الدرب الجديد" وجعله متعانقا مع خطوة الشاعر يسمح لنا بتأكيد "الأثر السوريالي"، حيث لا يعود من الممكن الفصل بين جسد الطريق وجسد السائر.. لكن تصعيد الاستعارة لا ينجم عنه هنا غير اللف الجبري في"المدار العتيق": الخطوة تصر على الجديد لكن الذاكرة ترسّخ التليد، وبهذا المعنى لا ذاكرة للخطوة غير التكرار والانكسار.



الخطوة البتراء


نخلص إلى أن بتر الموسيقى وتقطيع اللوحة و"تعويض" غياب نصفها ب "المتن الشعري" تقنية إبداعية رقمية لافتة للانتباه، وكان من الممكن أن تذهب أبعد وأعمق في العناق الباني للمعنى، لولا أن حاجز "الحد الأدنى" الذي يقود أثر الشاعر وخطوته لا يسمح، راهنا، بغير ذلك.
وبالجملة، تنهض هذه "الخطوة البتراء" على السرعة الممتلئة (من حيث الإيقاع) والخطوة المنكسرة (من حيث التيمة) والعتمة الغامضة (من حيث الفضاء) والبتر الحاد (من حيث التقنية البرمجية غرافيكيا وصوتيا).

أما من جهة الجانب التشعبي فإن الشاعر لا يمنح لنا في هذه الصفحة سوى خيارين تم تمييزهما بصريا بنفس مواصفات القالب الخاص بأيقونات الغرفة الزرقاء:
الأولى (111111-moshtak-2msh.htm_txt_zeer-moshtak_2.gif) تواصل بها اليد استكشاف القصيد عميقا، وتقدم في شكل:




أما الثانية (111111-moshtak-2msh.htm_txt_zeer-moshtak.gif) فهي تعو بنا إلى الوراء. إلى الغرفة الزرقاء!

مرة أخرى، لا انكفاء إلى الوراء. سأمضي طارقا باب الحاشية، هاربا مع الشاعر من غيابات "المدار العتيق"!


ملحوظة:


هذه وقفة  ثانية تليها وقفات أخرى مع بقية مكونات القصيدة، ويجدر التنويه بأنها قابلة للتحديث والتعديل أثناء إعادة تركيبها الأخيرة.